شكلت المرحلة التاريخية التي انطلقت خلالها المقاومة الإسلامية في لبنان مرتكزاً أساسياً في الالتقاف الجماهيري حولها في سائر الأقطار العربية والإسلامية، ذلك أن المقاومة لم تطرح مشروعاً تحريرياً يتصل بالأرض اللبنانية وحسب، وإنما طرحت مشروعاً استنهاضياً يتطلع إلى إصلاح الوضع المأزقي في العالم العربي والإسلامي الناتج عن تقدم المشروع الصهيوني في المنطقة.
لم تكن المرحلة التاريخية لترتسم ملامحها منذ لحظة إصطدام الاحتلال الإسرائيلي بالمقاومة الإسلامية في لبنان، بل تمتد بتداعيتها الدراماتيكية إلى تحويل مجرى الصراع نحو الحلول الاستسلامية التي ارتسمت أولى ملامحها منذ كامب ديفيد وحتى ما بعد مؤتمر مدريد في مطلع تسعينات القرن العشرين.
في حين تجلت أولى الإخفاقات الصراعية بعدم نجاح المشروع الناصري والذي التفت حوله الشعوب العربية مظهرةً التأييد لعبد الناصر إيذاناً منها بحل معضلة الصراع، غير أنها انتهت إلى الإحساس بالخيبة والمرارة والإحباط بعد نكسة الخامس من حزيران عام 1967.
وقد شكل بروز المقاومة الفلسطينية غداة النكسة أملاً جديداً من شأنه إعادة الإحساس بالقدرة واستعادة التوازن المفقود بالاستناد إلى نهج جديد في المقاومة الشعبية المسلحة كبديل عن منهج الاستخدام الرسمي في خوض الصراع. وقد شكلت المقاومة الفلسطينية موئلاً ومرجعية للاحتضان الشعبي الذي أظهرته الشعوب العربية والإسلامية بمعزل عن أنظمتها التي عانت من الانحدار والتراجع في هذا المجال بعد السقوط التاريخي للمشروع القومي في المنطقة.
غير أن لحظة دخول جيش الاحتلال الصهيوني إلى لبنان، والذي أدى بتداعياته إلى إخراج منظمة التحرير الفلسطينية، أعاد إلى الواجهة الإحساس بالخيبة والفشل بعد الآمال التي كانت معقودة على مشروع المقاومة الفلسطينية المسلحة، لاسيما وأن الجيش الصهيوني كان قد دخل إلى بيروت كأول عاصمة عربية منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي. وفيما كان المشروع الصهيوني يتخذ منحى تصاعدياً، راحت طلائع المقاومة الإسلامية التي تشكلت لحظة الاحتلال، توجه ضرباتها لجنوده في أماكن وجوده في مختلف الأراضي اللبنانية، فآذنت بخوض صراع مرير حتى تحرير الأرض والمقدسات.
كان يمكن للمقاومة أن تكون، بنظر الشعوب العربية، كإحدى التجارب التي سرعان ما تؤول إلى الأفول بفعل الإحساس بفقدان الأمل الناتج عن الخلل في التوازنات الموضوعية للصراع.
ولكن بفعل الانكفاء الجزئي للاحتلال من بيروت وصيدا وبعض مناطق الجنوب غدا هذا الواقع الجديد أحد الرهانات التي تزخر بالكثير من الايجابية في فعل التحرير المنشود، فراحت المقاومة تحظى بالتأييد الشعبي المتزايد بتزايد وتيرة ضرباتها المتكررة للجنود الصهاينة.
وقد عمدت المقاومة، بعد الانحسار الجزئي للاحتلال في منتصف الثمانينات، إلى مخاطبة الشعوب العربية والإسلامية حين أعلنت عن أهدافها في تحرير الأرض والمقدسات، وعن أنها تشكل النقيض للمشروع الصهيوني باعتبار أن الصراع معه يدخل في دائرة الصراع الوجودي الذي يفترض تضافر جهود الشعوب العربية والأمة الإسلامية على السواء.
وبذلك تكون لحظة الانطلاق قد ارتكزت على أهمية بارزة باعتبارها تشكل أهم الحلقات التواصلية مع النزوع التاريخي للشعوب العربية والإسلامية إلى التحرير، وكتجربة مضيئة بعد سلسلة من الإخفاقات التاريخية التي طرحت إلى الواجهة السؤال حول كيفية العمل للخروج من الوضع المأزقي الحاد لشعوب المنطقة.
وبطبيعة الحال، شكلت أولى نجاحات المقاومة بالتحرير الجزئي للأرض، بداية للاحتضان الشعبي. غير أن هذا الاحتضان مال إلى الإتساع بعدما أكدت المقاومة استمرارية الفعل المقاوم الذي كانت تدور رحاه اليومية على أرض الجنوب، وعلى وقع دك التحصينات والمواقع المنيعة لجنود الاحتلال والذي ترافق على مدى سنوات مع بروز الدور الريادي لقائد المقاومة السيد حسن نصر الله بعدما كانت قيادة المقاومة يكتنفها الغموض وعدم الإعلان عنها لوجود الاحتلال على امتداد الأراضي اللبنانية، وبعدما تبوأ موقع القيادة فيها غداة استشهاد الأمين العام السيد عباس الموسوي.
ومما لا شك فيه أن الفعل المقاوم المتساوق مع المرحلة التاريخية، والذي تجسد باستمراريته على مدى سنوات، أتاح هذا الالتفاف الشعبي. ولكن هذا الالتفاف اتخذ له عنواناً رمزياً تمثل بنظرة هذه الشعوب للقائد الكاريزمي كأحد إنتاجات هذه المرحلة إذ ليس من الممكن، وعلى ضوء التجارب التاريخية للشعوب، أن لا تتخذ أي حركة شعبيةً كانت أو رسميةً عنواناً لها يتمثل بالقائد الذي يرمز إليها ويستند إلى العزم والتصميم والإرادة في المضي بمشروعه حتى النجاح.
وقد عدّت في العالم العربي رجالات على أنها قيادات كارزمية بنظر شعوبها لما امتلكته من هذه المزايا، وظلت تصنف في هذه الدائرة رغم أن مشروعها في التحرير لم يكتمل، ما يعني إن كارزمها مسنودة أيضاً إلى المرحلة التاريخية المأزقية التي يمتلك فيها القائد إرادة التحدي حتى ولو لم يكتب له النجاح في هذا المجال.
من جهة أخرى، فقد ساهمت تداعيات المرحلة التاريخية هذه، في جعل المقاومة تقفز إلى واجهة الأحداث جراء المزيد من الانكفاء بفعل مشاريع الاستسلام التي تواصلت حلقاتها مع مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو وطابا ووادي عربة، والتي تزامنت مع عمليات المقاومة التي راح يعلن قائدها عن استمرارها حتى تحقيق النجاح المنشود، والذي تجسد في التحرير عام ألفين. إن رهاناتها تمثل السبل المثلى لتجاوز الوضعية المأزقية للمرحلة التاريخية والتي شكلت فيها المقاومة انقطاعاً نموذجياً عن حلقاتها الدراماتيكية المتداعية دوماً، والتي كان يفترض توفير الاحتضان الشعبي لها.
على هذا الأساس، تشكل لحظة انطلاق المقاومة في تمفصلها مع المرحلة التاريخية التي اقتضت العمل المقاوم، أحد الأبعاد الأساسية التي تضيف الكثير من الأهمية لهذا العمل، لاسيما وأنه ارتكز بحد ذاته على سلسلة من النجاحات التي تستوجب العبور نحو اكتمال أبعاده الاستنهاضية، وهو ما يستوجب مقاربة الأسس التي أدت إلى هذه الحالة التضامنية ، خصوصًا الدور القيادي ، والفعل المقاوم كما تجسّد في خطاب القيادة نفسها كقيادة متجاوزة لدائرتها الجغرافية.
فبالرجوع إلى الآراء والنظريات الواردة لدى علماء الاجتماع، نجد تنوعاً في المحددات الأساسية التي تجعل من الأفراد قادة كباراً. وربما يعود هذا التباين إلى اختلاف بيئة المقاربة، ومرحلتها الزمنية، ولكنها مع ذلك تمتلك أهميتها العلمية بكونها تخضع لحقل التجربة والدراسة الميدانية، قبل أن ترتبط بأهداف غائية محددة سلفاً أي بتقديم نظرة نمطية عما يجب للقائد أن يتحلى به من مزايا لكي يكون قائداً تاريخياً يمتلك القدرة على إدارة الناس، وعلى السعي نحو تغيير واقعهم نحو الأفضل، وهو خلاف ما درج عليه الفلاسفة السابقون كأفلاطون في جمهوريته التي لا تدار على أفضل وجه ما لم يحكمها الفلاسفة أو يتفلسف فيها الحكام, أو في مدينة الفارابي الفاضلة.
غير أن المقام هنا ليس مقاربة القائد كرجل سلطة يعمل بين الناس ويرتفع عنهم درجة لإدارتهم، وإنما يرتبط بقيادة استنهاضية تبرز أولاً، ثم يأتي فعل الانقياد وإعلان الولاء والسير معه نحو قضية محددة وهي قضية صراعية متجاوزة لما يمكن تسميته بفعل السلطة على أنه إدارة للشؤون الحياتية اليومية بين أفراد شعب بعينه، وإنما تطرح القضية على أنها قضية شعب أو أمة بأسرها بمقابل الآخر أو العدو المفترض مقاومته حتى حلّ هذه القضية الصراعية.
ومن هنا تأتي المقاربة لهذه القضية بالبحث والتحليل للوقوف على الأسباب التي جعلت منها قضية أمة بعينها، تلتف حولها وتعلن التأييد لها ولقائدها باعتباره يشكل رمزاً لها ويعمل من أجل نجاحها والوصول بها نحو الأهداف المنشودة. على هذا الأساس سوف تتم الاستعانة بما توصل إليه علماء الاجتماع جرّاء مقاربتهم لموضوع القيادة، وكذلك بما يتحدد عبر الواقع نفسه باعتباره يشكل خصوصية على النحو الجدلي الذي يدفع إلى بروز القائد الكاريزمي، فيما يعمل هذا القائد أيضاً على تغيير الظروف وجعلها أكثر توافقاً مع ما يرمي إليه من أهداف.
المصدر :
من کتاب / القيادة وتجربة الفعل المقاوم في لبنان