(1864-1913م) روحي الخالدي من رجال الأدب والفكر والسياسة ورائد البحث التاريخي في فلسطين. ولد في بيت المقدس في محلة باب السلسلة، أحد أبواب الحرم القدسي الشريف، وتحدر من أسرة الخالدي الشهيرة في القدس وسائر المدن الفلسطينية، ونشأ في بيت يعرف بالعراقة والعلم والأدب، أنجب أدباء وعلماء وقضاة ونواباً. وحينما بلغ من العمر ست سنوات، أُدخل إلى مجالس (الكتاتيب)، ومن ثم تابع تحصيله العلمي في المدارس الابتدائية الأميرية. وحين تولى مدحت باشا ولاية الشام أخذ يجمع حوله من يثق بإخلاصهم ونزاهتهم ممن كانوا أعضاء في حزب الإصلاح، أو ممن كانوا قد عملوا في دوائر وولايات الدولة العثمانية من ذوي السمعة الطيبة، وكان من بين هؤلاء والد روحي الخالدي؛ فقد عينه مدحت باشا قاضياً شرعياً لمدينة نابلس، وبذلك انتقلت الأسرة من القدس إلى نابلس، وفي أثنائها دخل روحي الخالدي إلى المكتب الرشدي، وهو مكتب دراسي يعادل الصفوف الابتدائية الأخيرة (الرابع - الخامس - السادس)، ولم يطل المقام بالأسرة، فقد انتقلت الأسرة مجدداً إلى طرابلس الشام حين عيّن مدحتُ باشا والده ياسين الخالدي قاضياً شرعياً للمدينة، وهناك التحق روحي الخالدي بالمدرسة الوطنية التي أنشأها آنذاك الشيخ حسين الجسر في المدينة، والتي نافست غيرها من المدارس لما حوته من وسائل حديثة تُعين الطالب وترغّبه في الدراسة.
في عام 1880، كان روحي في السادسة عشرة من عمره، اصطحبه عمه عبد الرحمن الخالدي معه إلى الأستانة، وهناك تابع دراسته المتوسطة، وقد لقي عمه حفاوة وتكريماً واسعين من شيخ الإسلام في الأستانة آنذاك (الشيخ عرياني زاده أحمد أفندي) الذي أنعم على روحي الخالدي وهو فتى برتبة (رؤوس بروسة) وهي أولى درجة في سلم المراتب العلمية، وعيّن مدرساً في مدرسة رابعة الخير في (بروسة).
ولم يمض روحي الخالدي وقتاً طويلاً في الأستانة، فعاد إلى القدس، وواظب هناك على حضور حلقات العلم والدرس في المسجد الأقصى، وراح يتلقى علوم الدين من فقه وتجويد وحديث، وعلوم الأدب من صرف ونحو وبيان وبديع، ومن علوم الفلسفة من كلام، ومنطق أيضاً. وفي المرحلة ذاتها راح يتردد على المدارس المعروفة في القدس ليزداد منها علماً وبشكل شخصي حيث حضر بعض دروس مدرسة (الأليانس) التي تدرس موادها باللغتين العربية والفرنسية، والمدرسة (الصلاحية) نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي لكي يتقن فيها اللغة الفرنسية، ثم التحق رسمياً بالمدرسة السلطانية في بيروت، وكان يديرها ويشرف عليها الشيخ حسين الجسر، وهي مدرسة تعادل في تعليمها المدرسة الثانوية آنذاك، وظلَّ فيها مدة من الزمن ثم تركها دون أن يكمل التعليم فيها لأنها أغلقت، وعاد إلى القدس ليواصل حضور حلقات الدراسة في المسجد الأقصى، واستطاع بعد محاولات عدة أن يسافر إلى الأستانة، وفيها قدم أوراقاً مدرسية رسمية أهلته للدخول في المكتب الملكي الشاهاني، وهو معهد له صبغة حقوقية، يشبه ما يتعارف عليه اليوم باسم كلية الحقوق، وقد درس في المعهد مدة ست سنوات، نال بعدها شهادته العالية، واكتسب في أثنائها خبرة حياتية عرّفته شؤون الحياة والمناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي السائد في الأستانة آنذاك.
بعد حصوله على شهادة المعهد الحقوقي العالية عاد روحي الخالدي إلى القدس، وعيّن معلماً في مكتبها الإعدادي. غير أن طموحه لم يقف عند هذه الوظيفة المتواضعة، لذلك عاد إلى الأستانة متقرباً من معارفه ذوي الرأي والنصيحة والمشورة في الديار السلطانية طالباً تعيينه في وظيفة (قائم مقام) لأحد الأقضية. وكاد يصل إلى مراميه وغاياته لولا أنه لقي ما لقيه من المفسدين والمخبرين وأصحاب الدسائس الذين أوغروا صدور المسؤولين عليه، فعاد مغتماً إلى مسقط رأسه في القدس. ثم مالبث أن قصد الأستانة مرة أخرى، وهناك راح يتقرب فيها من رجالات العلم والأدب والدين والفكر، فتعرف في تلك المدة إلى العلامة جمال الدين الأفغاني، وأخذ يحضر دروس العلم التي كان يلقيها في مجلسه. فكسب من حضوره ثقافة وسعة اطلاع أدنته من جمال الدين الأفغاني فجعله من خاصته ومريديه الذين يبوح لهم بأسرار نفسه. وحين أخذ المخبرون ينقلون، أخبار تردده إلى مجالس العلم، وما يقوله، وما يقوم به من نشاطات فكرية وسياسية إلى ذوي الشأن، أحسَّ روحي الخالدي بأنه مراقب في حركاته، وتصرفاته، وأقواله، لذلك ترك الأستانة، وقصد باريس، وهناك التحق بمدرسة العلوم السياسية مع بداية العام الدراسي، وأتمَّ دروسها في ثلاث سنوات، ثم التحق بعدئذٍ بدار الفنون العالية (السوربون اليوم) ودرس فيها فلسفة العلوم والآداب الشرقية. ولما كان من الدارسين المجدين النجباء عيّن مدرساً للغة العربية وآدابها في جمعية نشر اللغات الأجنبية في باريس، وكان قد ذاع صيته بين أوساط المستشرقين وهو لم يزل طالباً، وذلك لما اتسم به من سعة اطلاع وحسن تخريج للمعلومات، فدعي مرات عدة للمشاركة في الندوات والمؤتمرات الخاصة بالمستشرقين، وألقى فيها المحاضرات والبحوث المميزة.
وبعد أن أنهى الخالدي دراسته في باريس، وبعد أن عرف وذاعت شهرته في محافل الأدب والفكر، عاد إلى الأستانة فعيّن مباشرة سنة 1899 قنصلاً عاماً للدولة العثمانية في مدينة بوردو الفرنسية وتوابعها. وفي بوردو أظهر الخالدي نشاطاً فكرياً وأدبياً وسياسياً لافتاً للانتباه، وجعل من بوردو حاضرة للثقافة والفكر وذلك بإقامة المؤتمرات والندوات والأنشطة السياسية التي تبحث وتحلل في الشؤون الدولية ومتغيراتها آنذاك. ولم تمضِ إلا مدة وجيزة على إشغاله منصب القنصل العثماني العام في بوردو حتى أصبح رئيساً لجمعية القناصل في المدينة بعد أن أجمع كل قناصل الدول التي تُمثل في المدينة على توليه لهذا المنصب الرفيع. وقد منحته الحكومة الفرنسية تقديراً لجهوده الأدبية والفكرية والديبلوماسية وسام نخلة المعارف الذهبية، ووسام فرقة الشرف (لجيون دونور)، وقد شغل منصبه القنصلي نحو عشر سنوات إلى حين أعلن الدستور العثماني سنة 1908. كان في تلك المدة ينشر بحوثه ودراساته الأدبية والفكرية في الصحف والمجلات العربية الشهيرة مثل «الهلال».
وفي بوردو تزوج روحي الخالدي فتاة فرنسية. وبعد صدور الدستور العثماني (24/ تموز/1908) رجع روحي الخالدي إلى القدس، وأبدى فيها نشاطاً فكرياً وسياسياً مهمين الأمر الذي جعل مواطنيه ينتخبونه نائباً عنهم في مجلس النواب العثماني (مجلس المبعوثان) مع الشخصية السياسية المعروفة آنذاك سعيد بك الحسيني. وحين انتهت مدة نيابته في المجلس عاد أهالي القدس وجددوا انتخابه مرة ثانية ليكون ممثلهم وممثل القدس في الأستانة، غير أن المجلس النيابي (مجلس المبعوثان) حل سنة 1912، فعاد روحي الخالدي كما عاد غيره من النواب إلى بلدانهم، ومع ذلك لم يطل المقام به في القدس فرجع إلى الأستانة، وهناك أصيب بحُمّى التيفوئيد التي قضت عليه سريعاً، فمات ودفن في الأستانة تكريماً وتقديراً لجهوده وخدماته التي قدمها للدولة العثمانية من جهة، وتقديراً لمزاياه الفكرية والسياسية الكثيرة من جهة ثانية.
ذاع صيت روحي الخالدي في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، إذ فتحت له كبرى مجلات الوطن الأدبية آنذاك صدر صفحاتها، وراح رؤساء تحرير تلك المجلات (خصوصاً جرجي زيدان رئيس تحرير مجلة الهلال المصرية) يكاتبه راجياً تزويده بمقالاته عن الأدب الفرنسي بوصفه رجلاً فهامة في الأدبين العربي والفرنسي، ولعل أهم ما كتبه في هذا المجال هو بحثه الطويل المعروف والذي نشر على حلقات عن الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هيغو، ثم بحثه في تاريخ علم الأدب والتأثر والتأثير ما بين الآداب العربية والغربية ووقوفه على أهم المصطلحات الأدبية وبيان مدلولاتها والوصول إلى وضع تعريفات دقيقة جداً قياساً إلى ما كان يعرف عنها في ذلك الزمن.
أما آثاره الأدبية فهي:«رسالة في سرعة انتشار الدين المحمدي وفي أقسام العالم الإسلامي» و«المقدمة في المسألة الشرقية منذ نشأتها إلى الربع الثاني من القرن الثامن عشر»، و«تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هيغو»، و«الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة» و«الكيمياء عند العرب»، و«رحلة إلى الأندلس».
وهناك مخطوطات ما تزال تنتظر الطباعة.
روحي الخالدي
Saturday, December 27, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.
آخر أعلام
الأكثر زيارة في الأسبوع
موارد بیشتر برای شما
الشعر في مشهد، العاصمة الدينية لإيران
الانهيار البطيء للنظام السعودي..بن سلمان وحيدا في القمة!
معركة فاصلة على الرئاسات الثلاث في البرلمان العراقي
امريكا تصعد هجماتها الإعلامية ضد وزيرخارجيتها السابق
كاتب بريطاني: ابن زايد يستغل جهل ابن سلمان
مفاجأة... لماذا قرر عمر البشير حل الحكومة؟
الأنواء تعلن حالة الطقس في العراق للأيام المقبلة
اليابان تجرب مصعدا إلى الفضاء!
استخدام تقنية التعرف على الوجه في مطارات الهند
روسيا تستأنف إنتاج أضخم "سفينة طائرة" في العالم
جماعة علماء العراق: حرق القنصلية الايرانية تصرف همجي!!
البرلمان العراقى يعقد جلسة استثنائية لمناقشة الأوضاع بالبصرة اليوم
قمة طهران تخطف صواب الغرب وتذهل ساسته
معلومات لم تسمعها عن "المختار الثقفي"..من أديا دوري الامام الحسين وأخيه قمر بني هاشم؟!
الأمم المتحدة تطالب الصين بالإفراج عن مليون مسلم من الأويغور